
وجه الحقيقة | إبراهيم شقلاوي يكتب: البرهان: بين "نقاتل وحدنا" و"لدينا حلفاء"...
شهد هذا الأسبوع تحولات بارزة في المشهد السياسي السوداني، يمكن ادراجها تحت عنوان: "تكتيكات المرحلة وتبدلات الخطاب السياسي". نسعى في هذا المقال إلى تحليل هذه التطورات في سياقها الراهن والمستقبلي، وشرح دلالاتها، في ظل الحديث المتزايد عن تسوية سياسية تقودها الولايات المتحدة بدعم من فاعلين دوليين وإقليميين لوقف الحرب المستمرة في البلاد.
في تطور لافت، حمل خطاب الفريق أول عبد الفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة، مؤشرات على تحول استراتيجي في توجهات الدولة السودانية ومؤسساتها الأمنية. ولأول مرة منذ اندلاع الحرب في أبريل 2023، خرج البرهان عن الخطاب التقليدي للقيادة العسكرية، ليُقر صراحة بأن "السودان لا يقف وحده، بل لديه حلفاء"، وذلك في مقابلة بالامس مع صحيفة إل إسبانيول الإسبانية، نقلت عنها قناة الجزيرة .
جاء هذا التصريح بالتزامن مع تعثر المفاوضات التي تُجريها اللجنة الرباعية "أمريكا، السعودية، مصر، الإمارات". والتي تأجلت من 20 إلى 29 يوليو بسبب خلافات داخلها حول رؤية الحل.. مع اتجاه لإلحاق قطر وبريطانيا باللجنة. بهدف فرض تسوية سياسية محتملة.
وتستند هذه التسوية إلى تقارير ومقترحات صادرة عن مراكز بحوث أمريكية، تدعو إلى دمج مساري جدة والرباعية في صيغة هجينة تجمع بين روية الحكومة السودانية والضغط الدولي. وتشمل هذه الصيغة إعلانًا سياسيًا مشتركًا، وهيكلًا إداريًا موحدًا في جدة، واتفاقًا ملزمًا يصدر عبر مجلس الأمن.
هذا المسار يعكس مقاربة جديدة تعتمد على فرض الحلول الدبلوماسية الخشنة عبر أدوات النفوذ الدولي، بعيدًا عن الحوار الوطني السوداني، ما يثير مخاوف من تكرار تجارب سابقة أُنتجت خارج الإرادة السودانية ولم تفضِ إلى سلام حقيقي.
بالرغم من ذلك وفقًا لصحيفة الشرق، لم تُبلور واشنطن بعدُ استراتيجية واضحة للأزمة، مما دفع القاهرة والرياض إلى تكثيف جهودهما دعماً للخرطوم، حيث بدأ تصريح البرهان بشأن "الحلفاء" رسالة مزدوجة: أولًا، أن الجيش السوداني ليس معزولًا سياسيًا.
ثانيًا، له عمقًا إقليميًا يتجاوز حدود الجغرافيا. كما أكد أن العلاقات الخارجية للسودان ستُبنى وفق مواقف الدول من الحرب، وأن بعض القوى تحاول فرض تسويات لا تعبّر عن توازن القوى الحقيقي داخل البلاد.
هذا التحول في الخطاب لم يأت بمعزل عن الواقع الميداني، بل تزامن مع تكليف لجنة بقيادة الفريق إبراهيم جابر لإعادة الأمن والخدمات إلى ولاية الخرطوم. وقد بدأت اللجنة تنفيذ مهامها بوتيرة متسارعة، شملت إصلاح البنية التحتية وتعزيز الحضور الأمني بالعاصمة.
في ذات السياق، شهد يوم أمس موجة غير مسبوقة من عودة اللاجئين السودانيين من مصر، بأعداد فاقت المعدلات السابقة، في مؤشر على مسعى لإعادة الحياة المدنية والسياسية إلى الخرطوم، وترسيخها كمركز للقرار السياسي، خاصة مع تزايد الدعم لحكومة كامل إدريس.
وفي خطوة بالغة الدلالة، قام البرهان بزيارة مفاجئة إلى الخرطوم، حيث هبطت طائرته في مطار العاصمة لأول مرة منذ بداية الحرب. عقد اجتماعات مع هيئة الأركان، وتفقد قيادة المدرعات، ثم زار سوق السجانة والتقى عددًا من المواطنين. هذه الجولة وجهت رسالة واضحة: أن العاصمة تعود تدريجيًا إلى كنف الدولة، وأن القيادة عازمة على مباشرة مهامها من الداخل.
ويُتوقع، وفق مراقبين، أن تتبع هذه التحركات خطوات عسكرية واسعة لاستعادة السيطرة على إقليم كردفان ودارفور، أو على الأقل فك الحصار عن مدينة الفاشر. ويبدو أن السودان بدأ يتبنى استراتيجية أكثر وضوحًا لفرض الأمر الواقع، عبر استعادة مؤسسات الدولة، وتعزيز التحالفات الإقليمية، والانفتاح على الدعم الخارجي.
إنها استراتيجية تنقل الخطاب من "نقاتل وحدنا" إلى "لدينا حلفاء"، وتوحي بأن السودان قد تجاوز مرحلة الطوارئ، وبدأ يتصرف كدولة تستعيد سيادتها وتتهيأ للتفاوض من موقع القوة والإسناد الشعبي.
في المقابل، ظلت الرباعية الدولية مرفوضة من السودانين لإنهاء تذكرهم بضلوعها في هندسة المشهد السوداني الذي قاد البلاد نحو الحرب لذلك هذا التخبط بين تعقيدات الواقع الميداني وتضارب مصالح أعضائها، يُهدد بإفشال الاجتماع المرتقب.
هذا الوضع الملتبس سمح بدخول قطر كطرف جاد، والتي تتحرك بهدوء لتقديم نفسها كوسيط مقبول. وقد جاء تصريح المبعوث الأميركي لشؤون إفريقيا، مسعد بولس، من الدوحة مطلع الاسبوع ليؤكد أن الصراع في السودان "لن يُحسم عسكريًا"، وأن "الحل الوحيد هو تسوية سياسية شاملة". لكنه أشار في الوقت نفسه إلى ضعف أدوات الضغط وغياب رؤية موحدة داخل الرباعية، مما يثير تساؤلات حول مدى جدية هذا المسار.
في ظل هذا الغموض، تسعى الحكومة السودانية إلى تثبيت وضعها الداخلي، وتعزيز علاقاتها الإقليمية والدولية دعمًا لتحركات الجيش. ويعكس تصريح البرهان موقفًا لا يقبل المساومة، ويوجه رسالة مباشرة إلى المجتمع الإقليمي والدولي، مفادها أن أي مبادرة لا تراعي السيادة الوطنية مصيرها الفشل. وقد اعتبر مراقبون هذا التصريح بمثابة إعلان "فيتو" يملكه الجيش في وجه أي حلول تعمل علي إعادة البلاد إلى ماقبل الحرب.
وبذلك يبدو أن السودان ينتقل من مرحلة رد الفعل إلى مرحلة المبادرة: خطاب جديد، حلفاء معلنون، عودة القيادة إلى العاصمة، تحركات ميدانية، وعودة تدريجية للاجئين. كل هذه المؤشرات ترسم ملامح استراتيجية ترمي إلى تثبيت الدولة في زمن الحرب، وفرضها كأمر واقع في الحسابات الإقليمية والدولية.
دمتم بخير وعافية.
الأربعاء 23 يوليو 2025م
Shglawi55@gmail.com
مشاركة الخبر علي :