حديث الساعة إهام سالم منصور تكتب: الكفاءة أم الوساطة والمحسوبية في الخدمة المدنية
تُعد الخدمة المدنية العمود الفقري لأي دولة، فهي التي تنهض بالإدارة وتسيّر دولاب العمل في مؤسسات الدولة المختلفة، وتترجم السياسات العامة إلى واقع ملموس يمس حياة المواطن اليومية. ومنذ فجر الاستقلال، كانت الخدمة المدنية في السودان تُضرب بها الأمثال في الانضباط، والدقة، والكفاءة، والولاء للوطن، لا للحزب أو القبيلة أو الفرد.
لقد كانت معايير الاختيار في ذلك الزمن تعتمد على الكفاءة، المؤهل، والخبرة العملية، عبر لجنة الاختيار للخدمة العامة التي اشتهرت بالنزاهة والعدالة، فكانت بمثابة صمام أمان يضمن أن يتولى كل موظف موقعه عن استحقاق. وبهذا النهج الراسخ، نشأت أجيال من الإداريين والموظفين الذين أخلصوا في أداء واجبهم، فازدهرت دواوين الحكومة، وانتظمت الإجراءات، وشهد المواطن خدمة متميزة تليق بإنسان السودان.
ومن المظاهر التي شكّلت ركيزة صلبة في الماضي ما عُرف بـ “نظام الموظف الجوال”، حيث كان التنقل بين الولايات أمرًا مألوفًا؛ فالمعلم من دنقلا قد يُكلف بالتدريس في دارفور، والطبيب من الشرق يُرسل إلى كردفان، والمهندس من الجزيرة يعمل في أقصى الشمال. وكان ذلك يخلق حالة من الانصهار الوطني وتبادل الخبرات والثقافات، كما ساهم في محاربة الفساد الإداري ومنع تمركز النفوذ في مناطق محددة.
لكن، ومع مرور السنوات، ومع تغير الأنظمة وتبدل المفاهيم، تراجعت هيبة الخدمة المدنية، وتبدلت معايير التوظيف والترقي. أصبحت الوساطة والمحسوبية هي جواز المرور إلى المناصب، وتراجع دور لجنة الاختيار، بل أُضعفت عمدًا أحيانًا لإفساح المجال أمام الانتماءات الحزبية والولاءات الشخصية. فحل الولاء مكان الكفاءة، والعلاقات مكان الخبرة، مما أدى إلى انهيار المعايير التي كانت تضبط الإيقاع الإداري في الدولة.
وهكذا أصبحنا نشهد اليوم موظفين بلا تأهيل كافٍ، في مواقع حساسة، يتخذون قرارات مصيرية تفتقر إلى الرؤية والعلم والخبرة. وتحوّلت دواوين الدولة إلى أماكن تكدّس فيها الوجوه نفسها، تعمل بلا تخطيط أو تقييم أو محاسبة. ومع غياب التدريب والتأهيل المستمر، تراجعت روح المبادرة والانتماء، وضعف أداء المؤسسات العامة، وأصبح المواطن لا يجد الخدمة التي تليق به.
كما أن الفساد الإداري والمالي وجد بيئة خصبة للنمو، في ظل غياب الرقابة الفاعلة، وضعف الهياكل التنظيمية، وخلط الاختصاصات، وتغوّل السياسي على الإداري. ونتيجة لذلك، نزفت الخدمة المدنية كفاءاتها، حيث غادر الكثير من أصحاب الخبرة والعلم إلى خارج البلاد بحثًا عن بيئة عمل تحترم الكفاءة وتكافئ الإبداع.
إن إصلاح الخدمة المدنية اليوم ليس ترفًا، بل هو شرط لبقاء الدولة واستقرارها. فبدون إدارة نزيهة، وكوادر مؤهلة، وتوزيع عادل للفرص، لا يمكن تحقيق تنمية حقيقية. ويجب أن يبدأ الإصلاح بإعادة الاعتبار للجنة الاختيار، وتفعيل مبدأ “الرجل المناسب في المكان المناسب”، وإبعاد الحزبية والقبلية من مفاصل الدولة. كما ينبغي وضع برامج تدريب وتأهيل حديثة تواكب التطور الإداري العالمي، وإعادة هيكلة الأجهزة الحكومية وفق معايير الكفاءة والشفافية.
لقد أثبتت التجارب أن الأمم لا تنهض بالشعارات، بل بالمؤسسات الراسخة والعقول المبدعة. وإن إعادة بناء الخدمة المدنية على أسس الكفاءة والانضباط والنزاهة هو السبيل الحقيقي لنهضة السودان، واستعادة الثقة بين المواطن والدولة، فبدون إدارة قوية ونزيهة، تبقى كل الخطط حبراً على ورق.
نداء وطني:
يا أبناء السودان المخلصين، يا من حملتم الوطن في قلوبكم، إن إعادة مجد الخدمة المدنية ليست مهمة حكومة أو وزارة فحسب، بل هي واجب وطني يتطلب تضافر الجهود كافة. علينا أن نعيد الاعتبار للكفاءة، وأن نحمي مؤسساتنا من داء المحسوبية، وأن نغرس في الأجيال القادمة قيمة العمل الشريف والانتماء الصادق. فالسودان لن ينهض إلا بسواعد أبنائه الذين يؤمنون بأن الوطن فوق الجميع، وأن الخدمة العامة شرف لا مكسب.
مشاركة الخبر علي :
