د.محمد عوض محمد متولي يكتب: إعادة هندسة الثقة: التعايش السلمي والحوكمة الرشيدة كمعادلة استدامة لرتق النسيج الاجتماعي السوداني (1-2)
يمثل الصراع الذي شهدته السودان شرخًا جيليًا وعميقًا في جسد الأمة، تاركًا ندوبًا لا تقتصر على البسائط المادية، بل تمتد لتفتيت النسيج الاجتماعي القائم وتُهدد جوهر الهوية الوطنية الجامعة. إن الانتقال من دوامة الحرب إلى منظومة التعايش السلمي المستدام ليس مجرد محصلة لاتفاقيات سياسية عابرة، بل هو مشروع استراتيجي لإعادة بناء الثقة المفقودة على كافة المستويات. هذا المشروع يتطلب مقاربة منهجية وعلمية شاملة تستهدف الجذور العميقة للأزمة، وتؤسس لمرونة مجتمعية ومؤسساتية قادرة على امتصاص صدمات المستقبل.
*المحور الأول: المعالجة المجتمعية العميقة (المصالحة والعدالة الانتقالية)*
يكمن جوهر التحدي في معالجة الاستقطاب الحاد وما أفرزته الحرب من ترسبات نفسية واجتماعية عميقة. المقاربة هنا يجب أن تكون شاملة وذات بعد أفقي، تبدأ من القواعد الشعبية وليس من القمم السياسية، لتفادي التسييس. الهدف هو تحقيق المصالحة المجتمعية الحقيقية عبر تفعيل آليات العدالة الانتقالية غير الانتقامية. التركيز يجب أن ينصب على مبادئ الحقيقة، والجبر، والتسامح. إن إتاحة الفضاءات الآمنة للضحايا ومرتكبي الانتهاكات (المتفق عليهم) لتبادل الاعتراف بالضرر هو المدخل الأساسي لإنهاء حالة الإنكار وبناء سردية وطنية مشتركة تمكن المجتمع من طي صفحات الماضي المؤلم بمنهجية شفافة.
*المحور الثاني: الضمان المؤسساتي (الحوكمة وسيادة القانون)*
لا يمكن للتعايش السلمي أن يزدهر ويستدام في تربة الفراغ السياسي أو غياب سيادة القانون. إن أي جهد لرتق النسيج الاجتماعي يجب أن يكون مصحوبًا بـإصلاح مؤسساتي هيكلي عميق يضمن الحوكمة الرشيدة كآلية تشغيل أساسية للدولة. هذا يتطلب إعادة بناء جهاز الدولة على أسس الشفافية، والمساءلة، والنزاهة، والمشاركة. الأهم من ذلك، هو التأكد من أن المؤسسات الأمنية والقضائية تعمل بمهنية مطلقة وحيادية تامة لتطبيق سيادة القانون على الجميع دون أي تمييز أو محاباة. إن الشعور بالإنصاف المؤسساتي الفعال هو الضامن الأقوى ضد تحول النوترات إلى عنف، لأنه يعزز ثقة المواطن في حيادية الدولة وقدرتها على تحقيق العدالة وحماية الحقوق.
*المحور الثالث: بناء المشتركات والترابط (نبذ الجهوية والتنمية العادلة)*
من منظور البناء الاجتماعي، لا بد من إعادة تعريف الهوية الوطنية بشكل حاسم يسمو فوق الانقسامات. هذا يستلزم نبذ الجهوية والقبلية كإطار مرجعي للعلاقات أو للاستحقاق السياسي والاقتصادي. يجب أن تتحول المؤسسات التعليمية والثقافية والإعلامية والدينية إلى قنوات فاعلة في غرس قيم المواطنة الجامعة، والتعددية، والاحترام المتبادل، وقبول الآخر كعناصر قوة. أما اقتصادياً، فإن توزيع عوائد السلام والتنمية بمنهجية عادلة ومستدامة هو صمام الأمان الحقيقي للتعايش. يجب إطلاق برامج تنموية مستدامة تركز على المناطق المتضررة والمهمشة تاريخياً لتقليل الفجوات. إن خلق فرص عمل مستقرة ومحفزّة، خاصة للفئة الشبابية، هو تحويل طاقة كامنة يمكن استغلالها في الصراع إلى قوة بناءة، مما يرسخ الترابط المصالحي بين جميع مكونات المجتمع كبديل للنزاع.
*المحور الرابع: تأمين البيئة الخارجية (البعد الإقليمي والدولي)*
لا يمكن التعامل مع ملف التعايش السلمي في السودان بمعزل عن المحيط الإقليمي والدولي. إن نجاح أي جهود داخلية يعتمد جزئيًا على تحييد التأثيرات الخارجية السلبية التي تستغل الانقسامات الداخلية. يتطلب الأمر بناء جبهة إقليمية داعمة للسلام والاستقرار الداخلي، من خلال عقد التزامات واضحة مع دول الجوار والشركاء الدوليين بوقف أي دعم غير مشروع للأطراف المتصارعة، والتحول لدعم جهود التنمية وإعادة الإعمار. يجب أن تكون الدبلوماسية السودانية نشطة في تأطير المساعدات الدولية لتكون موجهة نحو تعزيز المصالحة المجتمعية وبناء القدرات المؤسساتية بدلاً من الاكتفاء بالإغاثة العاجلة.
*خلاصة التعايش السلمي وتوصية*
إن رتق النسيج الاجتماعي السوداني ليس هدفًا ترفيهيًا بل معادلة وجودية تتطلب تحولاً جذريًا. هذا التحول يجب أن يُنظر إليه كـاستثمار استراتيجي طويل الأمد يجمع بين المصالحة الشعبية الشاملة وبين الإصلاح المؤسساتي العميق الذي تضمنه الحوكمة الرشيدة، مع تفكيك آليات الجهوية والقبلية وضمان بيئة إقليمية داعمة. الطريق إلى الاستقرار يمر حتمًا عبر إعادة هندسة الثقة بين المواطن والدولة، وبين المواطنين أنفسهم، لتأمين مستقبل لا يُسمع فيه إلا صوت البناء والوئام والتنمية المستدامة.
*توصيات استراتيجية متكاملة لاصحاب القرار*
تستند هذه التوصيات إلى المحاور التحليلية السابقة وتستهدف التنفيذ العملي والمؤسساتي:
*الخاتمة وتوصيات استراتيجية*
في الختام، تتضح الرؤية بأن التعاطي مع ملف رتق النسيج الاجتماعي السوداني ما بعد الصراع يجب أن يتجاوز مفهوم الإغاثة أو التسوية السياسية المؤقتة، ليصبح مشروعًا وطنيًا ذا طابع منهجي وعلمي شامل. لقد أكد التحليل أن إعادة هندسة الثقة تشكل المعادلة الوجودية للاستدامة؛ وهي ليست مهمة قطاعية، بل مسار تزامني يقوم على أربع ركائز متداخلة: المعالجة المجتمعية للذاكرة والضرر، التحصين المؤسساتي، بناء المشتركات والهوية الجامعة، وأخيرًا، تأمين البيئة الجيوسياسية. إن التعايش السلمي في السودان هو خيار استراتيجي لا تكتيكي، يتطلب التزامًا قاطعًا بتفكيك بنية الانقسام. إن نجاح هذه العملية يتوقف على تحويل التوصيات الاستراتيجية إلى برامج تنفيذية ذات مسؤوليات زمنية واضحة ومساءلة صارمة. لذا، فإن الدعوة موجهة الآن إلى صانع القرار لتبني هذه الرؤية كـعقيدة عمل وطنية، تضمن تحويل السودان من فضاء للصراع إلى مركز للاستقرار والتعايش الإقليمي.
*توصيات استراتيجية شاملة : خريطة طريق تنفيذية :*
تستند هذه التوصيات إلى المحاور التحليلية وتوضح آليات وكيفية التنفيذ والجهات المسؤولة عنها:
*أولاً: محوَر المعالجة المجتمعية (المصالحة والعدالة الانتقالية)*
تفعيل مفوضية العدالة الانتقالية: يتم التنفيذ عبر الحكومة الانتقالية ووزارة العدل. الآلية هي إصدار قرار تشريعي فوري بتشكيل المفوضية وتزويدها بصلاحيات جمع الحقائق وتوثيق الانتهاكات، مع التركيز على الاستقلالية التامة عن الأجهزة التنفيذية.
إطلاق برنامج "حقيقة مقابل تعافي": يتم التنفيذ عبر المفوضية العليا للسلام والقيادات المجتمعية. الكيفية هي إنشاء منصات مجتمعية مفتوحة تتيح للضحايا سرد قصصهم بشكل علني وآمن دون خوف من الانتقام، لتوثيق الذاكرة المشتركة.
إنشاء صناديق "جبر الضرر والتعويضات": يتم التنفيذ عبر وزارة المالية ووزارة التنمية الاجتماعية. الآلية هي تخصيص ميزانية سيادية لتعويض الأفراد والمناطق المتضررة ماديًا ومعنويًا، مع وضع معايير شفافة وعادلة لتوزيع التعويضات.
تطوير برامج المصالحة المحلية القائمة على العرف: يتم التنفيذ عبر الإدارة الأهلية ومفوضية السلام. الكيفية هي دعم لجان الصلح العرفية المحلية بالدعم القانوني والاجتماعي، لدمج آليات التسامح التقليدية في إطار العدالة الانتقالية.
تأهيل الكوادر الإعلامية والتعليمية على لغة السلام: يتم التنفيذ عبر وزارة الإعلام ووزارة التربية. الآلية هي عقد دورات مكثفة للصحفيين والمعلمين لتبني خطاب إيجابي يركز على المشتركات ونبذ التحريض، ومراجعة المحتوى لتجنب أي لغة تمييزية.
تأسيس شبكات "نساء من أجل السلام المستدام": يتم التنفيذ عبر وزارة التنمية الاجتماعية والمنظمات النسوية. الكيفية هي تمكين المرأة في المناطق المتضررة لقيادة مبادرات المصالحة على مستوى الأسرة والمجتمع المحلي، وإشراكهن رسميًا في لجان المفاوضات المحلية.
إقامة مراكز الدعم النفسي والاجتماعي في مناطق النزاع: يتم التنفيذ عبر وزارة الصحة والمنظمات الطبية الدولية. الآلية هي توفير الدعم المتخصص لمعالجة الصدمات النفسية الناتجة عن الحرب، خاصة للأطفال والناجين من العنف القائم على النوع.
تنظيم ملتقيات وطنية للشباب حول مفاهيم المواطنة: يتم التنفيذ عبر وزارة الشباب والرياضة والجامعات. الكيفية هي جمع شباب من مختلف الأقاليم والمكونات في برامج تبادل ومعسكرات مشتركة لبناء الثقة وتفكيك الصور النمطية المسبقة.
توثيق الشهادات الشفهية للنزاع: يتم التنفيذ عبر المراكز البحثية والجامعات. الآلية هي إنشاء أرشيف وطني محايد يسجل قصص الضحايا والشهود لحفظ الذاكرة التاريخية بشكل موضوعي، يخدم كمرجع للبحوث المستقبلية.
إصدار قانون يحظر خطابات الكراهية والتمييز: يتم التنفيذ عبر المجلس التشريعي ووزارة العدل. الكيفية هي سن تشريع واضح يجرم التحريض على العنف أو الكراهية على أساس عرقي أو قبلي أو جهوي، مع تحديد عقوبات رادعة.
*ثانياً: محوَر الضمان المؤسساتي (الحوكمة وسيادة القانون)*
إعادة بناء جهاز القضاء وتأمين استقلاليته المالية والإدارية: يتم التنفيذ عبر المجلس الأعلى للقضاء. الآلية هي مراجعة شاملة لقوانين السلطة القضائية لضمان عدم تدخل السلطة التنفيذية أو العسكرية في عملها، وتوفير الموارد الكافية لتشغيل المحاكم المتوقفة.
مراجعة وتعديل قانون الخدمة المدنية: يتم التنفيذ عبر مجلس الوزراء ووزارة العمل. الكيفية هي تعديل القانون لضمان التعيين في الوظائف العامة بناءً على الكفاءة والمهنية فقط، وتفعيل آليات لمنع المحاصصة أو التعيين على أساس الانتماءات الجهوية والقبلية.
إنشاء "هيئة وطنية لمكافحة الفساد واسترداد الأموال": يتم التنفيذ عبر المجلس السيادي كهيئة مستقلة ذات سلطة واسعة. الآلية هي تفعيل آليات الرقابة المالية والإدارية الشاملة على جميع المؤسسات الحكومية، وتعقب الأموال المنهوبة وإعادتها لخزينة الدولة.
تفعيل قانون الحق في الوصول للمعلومات: يتم التنفيذ عبر المجلس التشريعي وجميع المؤسسات الحكومية. الكيفية هي إصدار القانون وتدريب الكوادر الحكومية على تطبيقه، لتعزيز الشفافية وإتاحة البيانات والمعلومات العامة أمام المواطنين والباحثين.
إصلاح قطاع الأمن (SSR) بشكل شامل: يتم التنفيذ عبر المجلس الأعلى للأمن والدفاع. الآلية هي دمج وتوحيد القوات النظامية تحت قيادة مدنية موحدة ومحاسبة، وتحديد دورها حصرياً في حماية الأمن القومي بعيداً عن التدخل في الشأن السياسي أو الاقتصادي.
إلغاء جميع القوانين المقيدة للحريات العامة: يتم التنفيذ عبر المجلس التشريعي. الكيفية هي مراجعة فورية للقوانين المتعلقة بالإعلام والتنظيم السياسي والتجمعات، بما يتماشى مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان، لضمان مشاركة واسعة للمجتمع.
تطوير مدونة سلوك صارمة للموظف العام: يتم التنفيذ عبر ديوان شؤون الخدمة المدنية. الآلية هي وضع معايير أخلاقية عالية للسلوك الوظيفي، وربط التزام الموظف بها بالتقييم الدوري والترقيات، وفرض عقوبات صارمة على أي تجاوزات تتعلق بالتمييز أو الفساد.
لامركزية الصلاحيات والمساءلة الإدارية: يتم التنفيذ عبر وزارة الحكم الاتحادي وولاة الولايات. الكيفية هي مراجعة قانون الحكم اللامركزي وتفويض سلطات مالية وإدارية حقيقية للولايات والمحليات، مع آليات واضحة للمساءلة الرأسية والأفقية.
بناء نظام للمساءلة المدنية على الأجهزة الأمنية: يتم التنفيذ عبر المجلس التشريعي ووزارة الدفاع والداخلية. الآلية هي إنشاء هيئة رقابة مدنية مستقلة تتلقى شكاوى المواطنين ضد أي انتهاكات ترتكبها القوات النظامية وتحقق فيها.
تمكين المجالس التشريعية الولائية: يتم التنفيذ عبر المجلس التشريعي الاتحادي. الكيفية هي إجراء انتخابات للمجالس التشريعية الولائية بمجرد استقرار الأوضاع الأمنية، لضمان مشاركة محلية في التشريع والرقابة على أداء الحكومات الولائية.
*يتبع*
مشاركة الخبر علي :
